dimanche 10 février 2013

خفافيش القبور العارية

   



خفافيش القبور العارية


يوم عبوس آخر لا يتولى.. هذه الحالة تعود كتفعيلة المتقارب التام رتابة وتواصلا وتكرارا... وهذا الجمع يعيش الحالة في هذا اليوم العبوس الآخر في ذهول وانهيار.

عزّ الصبر فلم يعد لأحد أن يهدره متساخيا به على الآخرين تضامنا أو أن يقتّره حتى على نفسه. كان الجمع في فزع كملاحين في نوء لا يمتلكون من رقيق العواطف ما يضعه الواحد بين أيدي الآخرين تضامنا أو حتى نفاقا.
إنها الفوضى.

قرر الرحيل آملا أن يخدع الرعب بهذه الطريقة بعد أن أصبح النشيج وآهة مكتومة يائسة الدليلين الوحيدين على الوجود الآدمي في هذه الأجساد التي حطمتها الحالة ومسختها بإبداع.

"أنا راحل " قال.
لم يستغرب الجميع القرار بقدر ما خافوا رحيله مفردا كأوّل الأعداد يبدؤها ثم تطغى عليه أضعافه فيضمر فيضيع.. هكذا فكروا.

تفحصّ وجهه في المرآة ثم قال:" أنفاق هذا أم هو عالم ما بعد الولادة وهما المتماثلان كشكلي وشكلي؟ بل هل من تماثل بين ما أراه مني في المرآة وما لا أراه فيّ؟.. أنا الآن مسجى على حصير وغطائي أبيض.. أنظر إلى السقف وفي السقف مرآة.. علي صفحة المرآة وجوه ترعب الناظرين.. أراهم يحيطون بي.. أنا لا أعرفهم، أسمعهم ولكن لا أعرف لهم أسماء."
"القلب يدق والأنفاس تتابع." قالوا
"يجب أن يكون ذلك وإلا كيف يُدفن عالم في قبري هذا؟ عالم بناسه وسفلته.. بي أنا وبهم..؟" قال.
فجأة صارت المرآة بلون السماء.. بل لعلها السماء.. غاب الجمع الحاضر.. نور في زرقة السماء لف المكان:" ابتدأتُ أشم كيمياء هذا الفضاء وألمس هندسته.. وجهي غاب.. أنا لست نائما ولا سكرانا أو مريضا ولا مجنونا.. عاد وجهي.. بتُّ أراه في هذا الأزرق السماوي العاكس..
 ما أخدع المرايا..؟"
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                            
جاء صوت:" المرايا لا تخدع.. المرايا تعكس."
قال: من يتكلم؟
- أنا
- ومن أنت؟
- إنسان
- ما أسعدني إذ أعلمتني أنّك إنسان.. ماذا تراك أفدتني، وأنا لست ممن تكلمهم الملائكة أو الشياطين، فمن أنت؟
- أنا أنتَ قبل اليوم

ساد الصمت. بقي مسجى على الحصير ينظر إلى السقف والسقف مرآة تعكس وجهه حينا ثم تخفيه وراء أزرق سماوي حينا آخر، فتبدأ الفوضى، يُخرج زفيرا يشعل وجهه في المرآة فيغطي دخان الحريق كلّ شيء. فيقرر الرحيل لكنه لا يرحل ولا يساعده أحد على ذلك.

طلب من الموت أن يمثل بين يديه - كما في الخرافات- ليعرفه أو هو يتخلص من المرآة فيرى ما يحيط به حقيقة لكن الصوت نهاه:
- تندم إن فعلت
- دخيل وتنصح؟ ما أوقحك..
- ما مضى حصل ولن يغيره شتم ولا مديح
- و أنا مازلت عاقلا ما يكفي كي لا أصدق الهواتف تأتيني لتنذر
- لا تقل إنّكَ تُصدّقُ ما تراه في المرآة فوقك في السقف؟

تعالت فجأة قهقهة مفتعلة مستفزّة صمّت الآذان وارتجت لها الجدران قبل أن يواصل الصوت:
- ابق عند حدود مرآتك فتفلح. وسكت الصوت
- تأكدتُ أنك لست من تزعم -لم يتلق ردًّا فواصل- لم تسألني عن دافع القرار؟  
قال الصوت:" لأنّكَ ستقول ما فكرت يوما في فلاحي، ولأني أعرف أنّك تكذب لا أرى للكلام نفعا ؟"

ساد الصمت من جديد.. صمتٌ فيه قلق وريبة وتحد.. هل يجب أن يصدق الصوت؟.. لماذا يصدقه؟.. بل لماذا لا يصدقه؟.. إنّه لا يفهم حتى الآن سر استلقائه على الحصير.. سر هذا الغطاء الأبيض وهذا النور الأزرق الذي يحتل مرآة في السقف تعكس وجهه حينا وتعرض عليه صورا لأناس يعرفونه ولا يعرفهم.. ترى هل يعرفونه حقا؟ وتمنى أن يعرف.. هل يسأل هذا الصوت؟
- أنصحك ألا تعرف قال الصوت.
- أيّة مصيبة أنت؟
- لأنك تكون من جنى على نفسه مادمتَ مصرا على المعرفة.
- المعرفة جناية وعدم المعرفة عذاب وهلوسة، من قال إن المعرفة جناية؟
- أنا أقول بعد خروج آدم وحوّاء من الجنّة.
- لو كنتَ في المرآة لمحوتُ صورتَك.
- واهمٌ أنتَ لأنه لا قدرة لك على المرآة، اعلم أني أنا من صقلها وعلّقها وثبّتك أمامها رحمة بك فلا تكفر بي.
- جئتَ واعظا إذا، أو طالب ألوهية.
- جئتُ لأزيل هذا التردد.. لأرى إن كان بالإمكان أن يفنى أحدنا في الآخر، أو أجزم بأن الرحيل جنة إذا عمّ البلاء فأتركك ترحل لتنتهي هذه الحالة.. لتزول هذه الأيام العبوسة التي لا تتولى.. ليمّحي هذا الفزع.. ليذهب هذا الطلسم إلى الجحيم فدع عنك هذا الهراء وسُلَّ نفسك من نفسك تعرف..
- كيف؟
و كأنه لم يكن ينتظر إلا هذا السؤال.

اتسع الحصير فجأة.. لم يعد أحد عليه.. صار الغطاء الأبيض ستارا أخفى الحصير.. أظلم المكان.. صوت مزمار يأتي من البعيد البعيد ابتدأ يقرب.. انبعث نور أزرق سماويّ فأضاء الستار الأبيض.. ارتفع الستار -كما في المسرح- لكن دون دقات سريعة وثلاث متفرقة.. دخلتْ سبع صبايا فجأة يتبعهن شابّ بهي الطلعة.. ناضر الوجه يسر الناظرين ينفخ في مزمار ولا تتبعه فئران -قيل لأنه نسي البحر ذات نزوة-

كانت الصبايا رقيقات.. جميلات.. كواعب.. يحتضنّ جرارا منقوش عليها عناقيد وكروم توارت خلفها النهود وفي خصر كل صبيّة منهن زنار غطي ما تدلى منه ملتقى الفخذين.

انقطع الشاب فجأة عن العزف فالتصقت أكتاف الصبايا واصطففن على هيئة المصلين بعد أن وضعتْ كل واحدة منهن جرّتها أمامها.. صار اللون ورديا فتقدم الشاب الصبايا كأنه يؤمهن.. تناول مزماره من جديد وعزف طويلا.. كانت موسيقاه في البداية شديدة في غير عنف، طويلة في غير ملل، ثم صارت حالمة، آسرة، سابحة. فسجدت الصبايا فتوقف عن العزف.

عاد النور أزرق سماويا من جديد فتناول مزماره وعزف صوتا واحدا برزت له إحدى الصبايا فاضت جرتها.. رشيقة كنحلة.. دنت من الشاب فتوقف عن العزف ثم وضع في راحة يده بعض ما فاض من الجرة وقرّبها إلى وجهه وشعره على هيئة المتطيّب فصارت أصابعه وردا وفاحت يداه لحنا وقال:" كَوْني إذا عبرتُ الصراط وهذه فردوس الهدى ولا ريب".
واستاءت الصبايا لأنهن خلقن فجورها لا تقواها.

ساد الصمت فاقبل الشاب يعالجه بمزماره عازفا صوتا وضعه من السنا والسناء سيغفله الأصفهاني ذات يوم في "الأغاني" لأن ترنيمة ابتدأتْ باهتة ثم طغتْ فصارتْ ترتيلا وذكرا أفزع الشاب فأسقط مزماره ونظر إلى الصبايا وقد تماسكت أيديهن مشكلات حلقة ثم أخذن يطفن حوله منشدات:
"أَوْلِمْ للدّهر ما تَقْبرْ
فكسبكَ فيه ما تخسرْ
واسكبْ لنفسكَ ما تعصرْ
لا خير في ذنب يُغفرْ
عقدنا لكَ الأمرَ ولكنْ
عاجز أنت أن تكفر"

أسرع إلى مزماره يزمّل به روعه فإذا به حية تسعى فقال:" لو كانت عصا كنت أصدّق وهذا عصر النبوات قد ولّى تُرى كيف أُنقذ حلمي في زمن صارت العصا فيه أرحم من المزمار؟"
عادت الصبايا إلى الاصطفاف ثم تقدمت من بينهن الوسطى فالتقطتْ الحيّة ثم جعلتها في جرتها فقال:" ما هكذا فعلتْ كليوباترا بالحيّة." فأجابت من تلتها يمينا" أو صدقتَ أنّكَ موسى تأتي علينا حيّتك؟"

وأراد الكلام فأسكتته أقصاهن إلى اليسار قائلة:"حية الجنة، لعلّك تذكر حوّاء." فقال:"وما ذنبُ آدم؟" فقلن في صوت واحد:"ليته كان السّؤال، عجبا للرّجل ما زال لا يحسن طرح الأسئلة."

بهت النّور فتقدّمت الصّبايا من الشّاب وقد سبقتهنّ ملتقطة الحيّة فسقته من جرّتها وفعلت الأخريات فعلها فغاب النّور وانكفأت الجرار على أفواهها فصارت على كلّ جرّة شمعة موقدة.. أمّا الصّبايا فقد اختفين أو هنّ قد أُسري بهنّ فصاح:"لا تذهبن.. أعدكنّ أنّي سأعزف وسأكفر وسأصرخ صرختي الأولى.. لن أهاب.. لقد افترى من قال إنّ الوليد يصرخ ثورة في وجه من أخرجه من الرّحم لحظة الولادة.. لقد كذب من قال إنّ الخلق جريمة والمستحيل انتحار.. أريد أن أولد وسأولد فلا تذهبنّ.. أريد أن أرحل.. أن أرحل.."

بقي كالمهووس يهذي ولا رحيم فنزل العقاب إذ غاب الحصير وغاب الغطاء وغابت الأنوار والتقى الشّاب والصّبايا ومن كذب على الوليد حول الشّموع الآخذة في الذّوبان.
علت صرخة كالنّفخ في الصّور فصار الجميع لحنا في رحم مزمار قديم.. قبر سيتقيّؤهم كلّ ليلة بعد انطفاء الشّموع خفافيش يعيشون النّدم، عبوسة أيّامهم لا تتولّى حتّى اليوم الأخير.

قال الذي كذب على الوليد:"ما ذنبي إذا كان يقرأ؟"
قال الصّوت:"ما ذنبي إن كان يحلم؟"
قالت الصّبايا:"ما ذنبنا إذا كان يكتب؟"
وطارت مرآة السّقف شظايا فتعرّى القبر وراح الجمع يحوم حوله في انتظار البعث.     




 

Newer Posts Older Posts