mercredi 29 janvier 2014

مطاردة


     مطاردة


  لم يتبدّد ظلام هذا الصّباح الشتويّ بعد. كانت السّاعة تشير إلى تمام الخامسة. صقيع شديد جعل هاشم يدخل عنقه بين كتفيه، ويضمّ ساعديه إلى جذعه. تجمّدت أذناه أو كادتا وبقي أنفه يفرز. أصابع يده اليمنى الممسكة بقفّة وضع فيها غداءه لم يعد يحسّ أنّها منه. قشعريرة كانت تهزه من حين إلى آخر يرتفع معها أعلى الظّهر ثمّ ينخفض. بشرة الوجه تقلّصت فكأنّها تحترق حتّى أنّه صار لا يعرف إن كان الألم الذي تحدثه أكثر أو أقلّ من عين السّمكة في إصبع رجله الصّغير وقد استوصى بها حذاؤه الضيّق لأنّه كان في الأصل لأبيه.
         
 أعمدة الكهرباء تصدر أسلاكُها أصواتا وقد حطّ عليها النّدى فأفزعته أكثر من أيّ يوم مضى فترك الرّصيف. فاجأه موقفه إذ خاف من الموت. فحياة مثل التي يعيشها هل تستحقّ أن يخاف الإنسان عليها؟ هكذا أحسّ فجأة ومع ذلك التزم سيره وسط الطّريق. قرّر فجأة أن يسرع الخطى علّ بعض الدّفء يرحمه ولكنّ وصوله إلى محطّة الحافلة قبل موعدها بكثير يجبره على الوقوف وقد يكون الموقف عندها أسوء فعدل عمّا عزم عليه.

البرد هو البرد كما الحرّ هو الحرّ وقد قاسى كليهما بعد حصوله على شهادته الجامعيّة وهو يعمل منظّف حاويات في شركة تخزين الزّيوت في انتظار وظيفة ينقذ بها حلمه ويحمي بها مشاق سنوات الدّراسة من الضّياع حتّى يفخر بمعاناته من أجل الشّهادة في زمن أصبح النّجاح فيه يخلّف إحباطا أكثر من الفشل. انتبه فجأة إلى أنّه يسير من جديد على الرّصيف.. وقعُ خطواته الرّتيب أزعجه كقطرات حنفيّة يتسلّل صوتها إلى الأذن في الظلام قبيل النّوم. فكّر في إشعال سيجارة غير أنّه لا يمتلك سوى اثنتين يجب أن يتركهما لوقت الضّيق إذ تأبى عليه نفسه أن يطلب سيجارة من أحد.
     
انطفأت أنوار الشّارع فجأة فشعر بالوحدة. طأطأ رأسه حتّى يتبيّن موطئ قدميه وإن لم يكن في حاجة إلى ذلك فالعتمة كاملة قد تتجلّى أحيانا أمام بيت ترك أصحابه مصباحه الخارجي منيرا إيهاما بحضور أو تثبيطا لعزيمة لصّ. مرّت به سيّارة لم يتبيّن نوعها جيّدا ولكنّه قدّر أنّها من النّوع الذي طالما حلم باقتنائه وهو يعود بشهادة ختم دراسته الجامعية، مرّت السّيارة وقد خلّفت فيه ذكرى جميلة كانت ذات يوم عندما كان على مقعد الدّرس، يوم كان الحلم مشروعا أمّا الآن فقد تركت في نفسه بعض الأنس في هذا الظّلام الدّامس ووجد نفسه يسرع الخطى في أثر ما بقي من صوتها.

وصل المخبز فدخله حتّى يبتاع نصف خبزة.. جنّة هذا المكان مقارنة ببرد الشّارع. انحنى ليضع القفّة أرضا فاتحا أصابعه بعناء شديد.. استقام من جديد فبشّ الرّيس منصور في وجهه وبادره بتحيّة الصّباح ولم ينتظر الرّيس الردّ بل واصل " كيف حالك يا ابني؟ لم تمرّ منذ أيّام، قلتُ لعلّ الله فتح عليك. ألم يأت الله بالفرج بعد؟" وردّ هاشم السّلام ثمّ بإشارة من رأسه نفى الفرج الذي بات يطارده منذ ثلاث سنوات تاريخ تخرّجه من الجامعة ولئن قبل على مضض خلوّ سوق الشّغل من وظيفة أثناء السّنة الأولى بعد التّخرّج فإنّه بات يائسا في السّنة الثّانية وناقما في الثّالثة خاصّة بعد أن رفض مطلبه لمواصلة دراسته العليا في المرحلة الثّالثة.

انسداد أبواب الشّغل وأبواب الدّراسة أمامه جعلاه إنسانا آخر. قال للرّيس منصور:" كان في تقديري أنّ هذا الوطن هو وطن الجميع فلماذا يقرّر البعض فيه ما يروق لهم، حتّى المعرفة نُمنع من مواصلة التّخصّص فيها بدعاوى يُسقط بعضها البعض الآخر." ردّ الريّس منصور :" يأتي الله بالفرج يا بنيّ الحمد لله أنّ أباك لا يزال على قيد الحياة. لقد سمعتُ أنّه بإمكانك الحصول على قرض لتقيم مشروعا" وقدّر هاشم أنّ الرّيس لا يفهم الوضع جيّدا فما هو المشروع الذي يمكن أن يقيمه مجاز في مادّة التّاريخ كما قدّر أنّ الرّيس لا يستطيع أن يفهم حقيقة ما يشعر به لكنّه رأى في حسن معاملته وسؤاله عنه في كلّ مرّة تعاطفا مع وضعه ثمّ عليه فعلا أن يحمد الله حين يقارن وضعه بحالات أخرى. انحنى من جديد ليأخذ قفّة الغداء بعد أن وضع فيها الخبز وودّع من في المخبز عمّالا ودفئا وارتمى في قسوة البرد والوحدة من جديد.

   وصل محطّة الحافلة، شعر أنّه يغالب فكرة ما فتئت تلحّ عليه، أن يغادر البلاد، أن يترك كلّ شيء أمّا الوجهة فلا تهمّ إذ الهواء والطّعام والأرض والنّاس في كلّ مكان، أمّا الشّعور بالغربة فترف فكريّ لمن وجد الوقت للتفكير في قضايا المكان والوجود بعد أن أدّى عملا ارتضاه وكسبا ضمنه فالفقر في الوطن غربة وقال :" صدقت يا أبا حيّان، نعم وما أقساها."

وصلت الحافلة  ففكّر ألاّ يركبها " يجب أن أصل متأخّرا  -قال- يجب أن أرى اليوم ما سيفعل معي ذلك الخنزير، فما نقص من ذهنه استولى عليه لسانه وقاحة ونميمة، أيّ زمن هذا الذي يُسيِّر فيه أنصاف المتعلّمين والوصوليون أقدار النّاس؟ يجب أن أجمع المبلغ وأهاجر، سأجمعه نعم لابدّ أن أجمعه".

 هدأت نفسه وقد هدأ هدير الحافلة وهي تقف في المحطّة.. فُتح بابها فركب. دفع ثمن تذكرته وارتمى على مقعد وقد تغافل القابض عن ردّ تحية الصّباح التي بادره بها هاشم.. واصلت الحافلة هديرها.. وضع القفّة بين رجليه.. أحسّ باهتزاز كلّ شيء.. داخل الحافلة وداخل نفسه.. تذكّر أيّام كان يصعد الحافلة وهو يحمل كتبه ويرفع في وجه القابض بطاقة اشتراكه.. لم يكن وحيدا أغلب الأحيان خاصّة في السّنة الأخيرة أيّام كانت ليلى حُلمه.. ليلى الحبّ ومشروع الزّواج ومواصلة الدّراسة العليا ومراجعة الدّروس المشتركة والبحث والنّشر المشترك.. ليلى التي لم تفكر حتّى في الرّد على مكالماته الهاتفية بعد أن اشتغلت منذ أسابيع التّخرج الأولى.. كان يريد أن يعرف الحقيقة منها.. حقيقة انفتاح الأبواب بهذه السّرعة أمامها وذاك من أبسط حقوقه على شريكة حلمه وقد تعدّدت الأقاويل في شأنها وهي مريبة في جملتها.

       وصل المحطّة الرّئيسيّة فأسرع إلى الحافلة الثّانية التي ستقلّه إلى المصنع، هناك حيث ذلك الخنزير "كيف يسمح لنفسه أن يفكّر أنّي أنافسه على منصبه؟ إنّ ما يؤلمني أن يفكّر أنّي بعد كلّ سنوات الدّراسة يكون أقصى طموحي أن أصبح رئيس عمّال تنظيف حاويات الزّيت، لقد كان عليّ أن أتكلّم يوم سمع أنّي خرّيج جامعة، ما زلت أذكر احتقان وجهه وهو يقول لي أمام الجميع:" إنّ عملنا هذا لا يحتاج شهادات بل خبرة وهو ما لا تمنحه كتبكم ولا شهاداتكم ولا استعداداتكم الشّخصية، فجيلكم هذا  جيل الرّقص والنّجاح السّهل وأصدقك القول إنّه لا ثقة لي بكم فعليك أن تثبت ذاتك وجدارتك أو أنّ كثيرين غيرك ينتظرون". وكنتُ جبانا يومها إذ لم أجب، فلم أثبت ذاتي، كنت مستعدّا لكلّ شيء مقابل ذلك الأجر الزّهيد حتّى أجمع ثمن خلاصي النّهائيّ من ذلّ البطالة والإحساس بالغبن. يجب أن أحصل على سعر التّذكرة والتّأشيرة إلى أيّ بلد أواصل دراستي فيه وحياتي، نعم وجب السّفر وإن كان عبر التّسلّل في مراكب الموت لتلقي بي مع جملة المهمّشين على شطآن لا يعلم أحد ما تخفيه ولئن كنت لا أعرف طريق المراكب وقراصنة البحر فإنّ استعدادي للدفع السّخي سيرشدهم إلى طريقي ووقتها لا يهمّ أيّ بلد سيحتضنني  أو قاع بحر يواريني.. لا يهمّ كنت حيّا وقتها أو ميّتا حتّى لا أُتّهم بحياة أنا لا أعيشها؟"

بلغت الحافلة نهاية خطّها فنزل وبقي عليه أن يقطع بقيّة المسافة على رجليه. كان البرد في هذا الخلاء نقمة انتصب له شعر جسمه أمّا وقد تذكّر كلب الأمس الذي فاجأه فقد انتصب له شعر رأسه فالتقط حجرا وتابع سيره مسرعا ممنيا النّفس أن يلحق قبل الوقت حتّى يتحلّق حول النّار مع الزّملاء وكانت تروقه بساطة حديثهم. مرّت به سيّارة في الطّريق يراها في الموقف أمام المصنع توقّف صاحبها ليأخذه معه.. صعد وألقى التّحيّة وشكر وهو لا يعرف صاحبها فقد أُفهم منذ اليوم الأوّل أنّه يحجّر على العمّال دخول الإدارة أو هكذا أفهمه الخنزير رئيس العمّال. وصل المصنع فأعاد شكر صاحب السيّارة ونزل وهو يلقي بالحجر الذي التقطه منذ حين فقال له مرافقه:"يبدو أنّ أحدا ألقى علينا شيئا." فاعترف أنّه من ألقى الحجارة وقصّ هاشم حكاية كلب الأمس فضحك المسؤول وهو يردف:"أ كنت ستحتاجها ونحن في السيّارة؟" وانبرى يضحك وهما يدخلان باب المصنع.

   وجد بعض الزّملاء حول النّار فالتحق بهم إذ لا تزال أمامه عشرون دقيقة لبدء العمل وإذا برئيس العملة يقصده ودون أن يردّ على تحيّة أحد من الجالسين قال له "إذا كان المدير طيّب القلب فأخذك معه في سيّارته أو إنّه ابتسم حتى لا يكسر خاطرك لتفاهة قد تكون تفوّهت بها فذاك ليس سببا لتسرقه. إنّ أحدا آخر مكانك يحترم نفسه ويفهم أنّه جاء ليعمل لا ليجلس حول النّار. إنّ إضاعة الوقت بالجلوس حول النّار سرقة يا هذا ثمّ كيف تتجرّأ وتوقف سيّارة مديرك؟ والأدهى أنّك تتظارف ليبتسم إليك. انتبه يا هذا  فمكاني هنا لا أحد يقدر على اغتصابه منّي ولا حتّى شهادتك الجامعية لذا إمّا أن تلتزم بعدم إزعاج المسؤولين والتّملّق وأن تلتحق بعملك في أوانه أو فخذ حسابك وعد من حيث جئت وهو آخر إنذار أوجّهه إليك وإذا كانت شهاداتك لم تعلّمك احترام الآخرين فبل عليها أو سلّمها إلى أمّك تضعها في النّار وترقيك بها وحياة فيها أصحاب شهادات مثلك أنا أبول عليها، هيّا قم إلى عملك" واستدار لينصرف. فجأة حدث كلّ شيء بسرعة إذ لم يعد يذكر كيف ارتمى على رئيسه ولا كيف دفعه فوقع وجهه في النّار فكلّ ما يذكره هو بعض الزّملاء الذين كانوا يحاولون إسعاف رئيسهم وهو يصرخ "أنقذوني إنّي أحترق لم أعد أرى" في حين انبرت أيدي بقيّة الزّملاء تمسك به وهو يصرخ فاتحا أزرار سرواله :"لقد حطّم هذا الخنزير حياتي بعماه فدعوني.. يجب أن أبول عليه لينطفئ ما في نفسي.. يجب أن أعلّمه قبل أن أدخل السّجن أنّ كلّ واحد قد يبول على الحياة والشّهادات بطريقته إذا وجب."

samedi 11 janvier 2014

حكاية المقبرة

  حكاية المقبرة


المكان وحش خرافي وجباته آدميّة وماؤه البكاء وعندما تشتدّ ظلمة الشّتاء وتصبح الأشياء أكثر قتامة من أفقي، أرى الوحش الذي عاش في خيالي وأكله كلّ ليلة ملطخا برعبي.. في تلك الليالي التي يفخر الشّتاء أنّها من صلبه يعربد رعدها ويشتعل برقها ليحوّل القبور البيضاء أمامي أسنان مارد يكشّر ثمّ ظلمة حالكة وعاصفة تدخلني بلعوما لا قرار له أعرف أنّ الموت هو الحقيقة الوحيدة وما عدا ذلك فخرافة عجائز قد تُضحك أو تُبكي والتأثير واحد إذا كان، والفضل فيه يعود إلى براعة الرّاوي. قال:" الحقيقة الوحيدة في الوجود هي الحياة لأنّه لولاها لما كان الموت، ألا تراك عجوزا سكنته النّهايات فصار يهذي ليحكي."

أراني أتحدّث عن الزّمان في حين قصدت المكان وإن كنت لا أدري أيدفن المكان أم الزّمان في الذّاكرة ؟ أتدفن الأبعاد أم يدفن التّاريخ؟ وأرتجل إجابة تافهة لأرتاح فأقول يجب ألاّ تكون الذّاكرة كفنا ولا الخيال مقبرة لذا وجب أن أحكي.. وكنت في الليالي التي تضيئها البدور أعشق أن أحكي وكانت شواهد القبور توحي إليّ بمن فيها فتختار حكايتي سامعها وأحكي.. أحكي حكاية الشّيخ.. حكاية المقبرة.. حكايتي.. أمّا حكاية الحكاية فهي أنّي وصلت هذه المقبرة آخر نهار بعد أن ضربت في الأرض أيّاما فأحلّني عزمي هذا المكان وقرّرت أن تنتهي قصّتي فيه. بدت لي المقبرة للوهلة الأولى فسيحة مكتظة قبورا فقلت كيف يعرف الأحياء موتاهم في هذا الزّحام وقلت يعرفونهم لأنّ الموتى لا يسكنهم جوع أو وَهْمٌ أو خيال فيضربون في الأرض لذا يعرف الأحياء أمواتهم كما قد يتعرّف بعض الأحياء عليّ بين الملايين فيكون ما أخشى.. إنّنا دوما معروفون منعوتون وإن خلنا غير ذلك.

في ركن قصيّ بعيد عن القبور غرفة بدت لي مهملة فقلت ألتجئ إليها فأتّخذها مأوى حتّى أتدبّر أمري وجيرة الأموات لا تؤذي، لكنّ شيخا خرج فجأة من الغرفة وهو يصيح بي:
- أنت.. قف عندك هناك.. انتهى وقت الزّيارة.
انتفضت فزعا ويبدو أنّي صرخت رعبا لكنّ المؤكّد هو بقاء شعري منتصبا كقنفذ أحاطت به الكلاب رغم العزم الذي تصنّعته.. قلت وقد دنا مني:
-  ومن تكون أنت؟
-  أنا حارس المقبرة
-  أتحرس أمواتك من الأحياء أم تراك تحرس الأحياء من طيش أمواتك؟
-  فزعك في ظرفك كجيفة في كفن جميل. أنا أحرس المقبرة.
-  كأنّي أعرفك
-  العالم قرية صغيرة
-  وهي بائسة أيضا
-  كلّكم سواسية تعشقون الحياة وتذمّون العالم
-  أمّا أنا فلا أعشق الحياة. أتقدّم لي معروفا؟
-  إن استطعت إليه سبيلا. قل ماذا تريد؟
-  أريد أن أموت فتدفنني دون أن يعلم أحد عن ذلك شيئا.
-  لذا حضرتَ إلى هذا المكان.
-  أجل.
-  ومن سيقتلك؟
-  سأنتحر.
-  مهووس آخر.. الموت ليس جثّة يواريها التّراب يا بنيّ.
-  أفي كلّ ركن أبحث فيه عن خلاصي يجب أن يقوم لي فيه فقيه أو نذل.
 شعرت بدوّار فجأة ثمّ بيد تهزّني فانتبهت وإذا بي مبلّل الشّعر والوجه ممدّدا على حشيّة. قال الشّيخ:
-  ها قد أفقتَ.. ماذا بك؟
-  قلتُ يبدو أنّه الجوع
-  لا عليك ستأكل
-  لستُ في حاجة إلى طعام. أين أنا؟
-  هنا.
-  وهنا أين؟
-  في بيتي وأنا أدعوك إلى طعام.
-  أخبرتك أنّي أريد أن أموت.
-  ستموت.. ومت كيفما شئت ولكن لا تمت جوعا.
-  ألا تسألني من أنا؟
-  تعوّدتُ مذ سكنتُ هذه الغرفة في المقبرة أن يجاورني كلّ يوم ضيف أو أكثر فلا أسأل عن اسم أيّ منهم.
-  وما اسمك أنتَ؟
-  أنا الذي كلّما سكر أحدهم على مائدة عزرائيل يؤتى به هنا ليدفع فيجاورني.
-  ما معنى أن يسكر على مائدة عزرائيل؟
-  تريد أن تموت ولم تسمع بسكرات الموت..!؟
-  سكرة الموت هيّ شدّته.
-  دعك من أوهام المعاجم التي أقنعوكم أنّها العالم في كتاب فتوهّمتم أنّكم تعرفون كلّ شيء ألا ترى أنّها تقول ما يجب أن يقال دون خيال. تقول الأشياء كالجثث دون روح إنّما هي أرواح تسكر على طاولة عزرائيل فتأتي هنا لتدفع، هكذا علّمتني السنوات التي قضيتها بين هؤلاء (وأشار إلى خارج الغرفة) وأدّعي أنّي أعرف عن هؤلاء أفضل منك بل أراك لا تزال غرّا لا تعرف عنهم شيئا لأنّك جئت كي تموت دون أن تكلّف نفسك فتسأل لماذا.
-  وهل تراني قرّرت ما قرّرت دون أن أسأل؟
-  أراك لم تسأل السّؤال الصواب إذا.
-   وما هو السؤال الصّواب؟
-  تلك هي المسألة
-  المسألة؟ قيل أن نكون أو لا نكون.
-  بل قل أطرحنا على أنفسنا السؤال الحقيقي أم لا. تلك هي المسألة وكفاك نقاشا وهلمّ إلى الأكل فهو أكثر نفعا بالنّسبة إلى من كان في مثل حالك.

أشار بيده إلى ركن في الغرفة فكانت الأطباق عديدة وكأنّ وليمة جُهّزت. قلت:" كم ضيفا تنتظر؟" فابتسم ولم يجب فأضفتُ:"إن كنتَ بمثل هذا الثّراء فلمَ إقامتك هنا؟
-  هو البذخ.. أليس هذا ما تريد قوله؟
-  بلى إن كان هذا دأبك كلّ ليلة.
-  أنا لست مظلوما إذًا.
-  ممّن؟
-  من البشر
-  وما دخل البشر في ما نحن فيه؟
-  هي نظرة البشر إليّ.. أصحاب الخير أو المغفّلون واسمح بهذه التّسمية يأتوني كلّ ليلة بما أقتات به صدقة على أرواح موتاهم فاقترب لنأكل ولا تنس أنّها ليلة الجمعة أي أفخرها أكلا وأكثرها أصنافا. يبدو أنّك محظوظ.

اقتربت من الأكل فوجدت الشّيخ قد وضع أمامه زيتا وزيتونا وبصلا وقارورة خمر. غمس قطعة خبز في الزّيت وضع عليها حبّة زيتون وقطعة بصل ثمّ سكب بعض الخمر في الكأس وقال:
-  أتشرب؟
-  أشربُ
-  كفّ عن الطّعام الذي بين يديك فتلك مائدة عزرائيل.
-  وكلّ هذا لمن؟
-  هذا ليس لك.. قل أهارب أنت؟
وشعرت بالخوف فجأة فواصل:
-  هارب من ذاتك.. أليس كذلك؟ سمعتُ شيئا من حكايتك منذ حين وكنتَ تهذي وإن كان ما قلتَه صدقا فاعلم أنّي أحترمك
-  وماذا تراك سمعت؟
-  كلّ الخير. لذا أدعوك إلى الابتعاد عن ذلك الأكل أمامك وإن بدا لك طيّبا وتعال شاركني طعامي هذا لأنّ ما أدعوك إليه أنقى وأشرف، كسبتُه بعرق جبيني فاشتريتُه بأموالي التي أحصل عليها من طلاء القبور فأنا لا أقبل صدقة ولا أقرأ قرآنا على الأموات. أريد أن أعيش حرّا كما قلتَ أنت في هذيانك منذ حين وأن تكون حرّا هو أن لا تجعل نفسك في حاجة إلى شخص أو شيء.
-  وهذا الطّعام،وكلّ هذا اللحم، ما تصنع به؟
-  ألقيه للكلاب فهي أهل له أمّا أنت فاسمح لي بأن أمنعك عن أكل ذلك اللحم لأنّك لست كلبا، وإن تاقت نفسك إلى اللّحم فأنا أعدك أن نشتري غدا لحما وخمرا كثيرا إن أعجبتني قصّتك. اشرب ثمّ قصّ علىّ قصّتك وأعدك أنّي أسقيك ما دمت تحكي.
-  قد تكون قصّتي مملّة.
-  إن تنزع هذه السّاعة عن معصمك فلن تكون قصّتك مملّة إنّ الملل هو أن تنشغل بساعتك وتطلى أيّامك بالأبيض.
-  كهذه القبور.
-  ككلّ القبور وذا ما قادك إلى ما اعتزمتَ القيام به ثمّ لا معنى لهذه السّاعة في معصمك في مثل هذا المكان.
-  وأين تريدني أن أضعها؟
-  سلّمها إليّ وأسمعني قصّتك كاملة فإذا هشّمتُها في الخاتمة فهذا يعني أنّي أسمح لك بالبقاء هنا في سلام وإن أعدتها إليك فمعنى ذلك أن تغادر المكان عند الفجر دون سؤال.
-  وإن أعجبتك الحكاية ولكنّها لم تقنعك فما القرار؟
-  سأكون كبعض النّاس، إن لم يقتنعوا شوّهوا الحقائق ليقنعوا أنفسهم كي يرتاحوا.
-  أتفعل ذلك من أجلي .. من أجل أن أبقى؟
-  من أجل أن أفعل ذلك فقط فلا تجعل الوهم يفسق بكبريائك.
-  إذن تسقيني فأحكي.
-  أسقيك. خذ القارورة والكأس ولا تبحث عن غيره فليس لي آخر ولنخرج من هذه الغرفة.
حملتُ القارورة والكأس بعد أن التهمتُ قطعة خبز كبيرة غمستها في الزّيت وسبقني الشّيخ إلى مكان ليس بعيدا عن الغرفة فحمل حجرا وطلب منّي الجلوس ثمّ سألني أن أبدأ حكايتي وراح يأتي بحجر غيره يجلس عليه قائلا:
- أحبّ أن أنظر إلى القبور وأنا أشرب لكن لا أريد أن أجلس بينها أو عليها لأنّي متى متّ لا أريد من يدوس على قبري كما لا أريد من يدوس على حياتي. هيّا هات حكايتك.
- أمّا رواية المشاهد والتّفاصيل فمهارة لا أدّعيها أمّا مجمل الحكاية فهو أنّ المبادئ لدى البعض لغة متعفّنة تزوّقها البلاغة والعديد منهم يدّعي الواقعية ليخفي انتهازيته
-  هذه ليست حكاية فلا تسمح لخيالك بخلق أشباح تنتهي بك إلى كوابيس تؤرّقك فأغلب ما نخشى هو من خلق خيالنا.. الإنسان وحده يخلق أشباحه وسفّاحيه فهات الحكاية.

صرخ بي فجأة " هناك اقتلها لقد نهشتني"
أسرعتُ فإذا هي حيّة تسعى تركتُها وأسرعتُ إلى الشّيخ فقال:
- يجب ألاّ أتحرّك حتّى لا يتسرّب سمّها في جسدي فاربط رجلي وائتني بشفرة حلاقة تجدها على الصّندوق قرب الباب نخرج بها الدّم المسموم"
وأسرعتُ لكنّي لم أعثر على شفرة الحلاقة وبحثتُ عن سكّين فلم أجدها عدت إليه فوجدته ملقى أرضا يتصبّب عرقا وبدا فاقد الوعي.

وجدتني حائرا بين أن أنقذ الشّيخ ليكون ما جئت من أجله وقد بدا لي أنّه ابتدأ يقتنع وأن أتركه يموت فأستولي على الغرفة وأفكّر من جديد.. كنت متردّدا بين أن أكون فقيها أو نذلا والزّمن في مثل الحال عدوٌّ.. بقيتُ أعدو بين الصّندوق أبحث عن شفرة الحلاقة أو السّكين وبين الشّيخ أطمئنّ على أنّه لا يزال على قيد الحياة وفجأة لمحت ساعتي فأخذتها بسرعة وكسرت زجاجها وجعلت أشرط جلد الشّيخ وأمتصّ ثمّ أبصق وكرّرت العمليّة لكن لا تقدّم في حالته فهرعت إلى الطّريق وقد اتّفق خروجي من المقبرة مع مرور شخصين فقلت:" النّجدة أرجوكما." فصرخ أحدهما وزعق الآخر:" ويل لأبيك اركض ميّت يلاحقنا." وركضا ينشدان السّلامة.

شعرت بحشرجة خلفي فالتفتّ فزعا وإذا بالشّيخ ورائي فقلت:
-  ما كان عليك أن تنهض
-  أراك قد اخترت وقد كسرتَ السّاعة.. انظر هناك.. سيّارة.. أوقفها
ارتميتُ أمام السّيارة فوقفتْ. استعنت بصاحبها ومرافقه على حمل الشّيخ بعد بذيء كلام من صاحبها ومرافقه وتفسير من قبلي.
قال الشيّخ:
-  المقبرة عهدتك فلا تمت حتّى أعود لنكمل حكاية الحكاية.
-  لا تمت أنت أرجوك.
ابتسم الشّيخ قبل أن يتّكئ عليّ.. احتضنته وشعرت بالرّغبة في أن أقول " لقد كسرتُ السّاعة من أجلك فلا تمت أرجوك.. المكان وحش خرافي بدونك." ولكنّي لم أقل ولم يقل الشّيخ شيئا.

   


Newer Posts Older Posts