samedi 10 novembre 2012

حانة الأقدار




حانة الأقدار
أدنى يده من الكأس في وجل من رام مفاتحة فاتنة بحبّه.. طوّقتْ الأصابعُ خصر الكأس وكانت رعشة اللذّة حين التقى الشّفافُ الباردُ راحة اليد.. أعاد الكأس مكانها بعد أن قطعت بها اليد نصف المسافة بين الطاولة والشّفتين.

"إنّها لم تمت -قال- بل إنّها لا تموت لأنّها لي.. أو لأنّها هي.. فهي لا تموت.. أمّا الناس الذين كانوا هنا يتوافدون منذ أسبوع وينعون ويرثون يُعذرون لأنّهم لم يعرفوا يوما أنّها لا تموت لذا كنت كثير الأدب معهم.. مسحتُ دمعةَ هذا وربّتُ على كتف ذاك وأنقذتُ ثالثا من ابتسامة خائنة شأن ما يكون كلّ مأتم.. كنتُ كثير الأدب معهم.. لأنّها تحبّ أن أكون كذلك.

إنّها لم تمت.. أمّا الجنازة فكانت كابوسا تهيّأ لي فاستنجدتُ بها.. كانت مستلقية في لذة نحلة على زهرة أو هي كحلم راهب بجنّة موعودة ففرحتُ ولعنتُ الشّيطان ثمّ ذهبتُ من جديد لأنام.. أنا لم ألعن الشّيطان.. قد يكون ذلك ما تمنيّتُ لكنّها لا تريد أن ألعن أحدا فنمت.

أنا لم أنم.. كلّ شيء بدا لي وهما أو هو كالوهم فما أحوجني إلى غفوة.. آه لو أستطيع أن أغفو هنا.. لا أذكر أنّي غفوتُ في حضرتها يوما أو غفوت يوما هنا.. حصل ذلك في المكتب وفي الشّارع.. في الحديقة وفي المرحاض.. ولكنّ عالمها..؟ معاذ النّفس أن تغفو في كونها.

إنّها لم تمت.. أمّا إن صحّ ما قيل فسيزورني النّاس غدا.. وغدا يترحّمون على روحها ويذكرون مآثرها وغدا سيأكلون كثيرا ويناقشون في السّياسة والرّياضة والأسعار ثمّ يذكرون موتها.. غدا سيحدث هذا وغدا سألعنهم واحدا واحدا أو سأتمنّى ذلك غدا."

امتدّت يده إلى الكأس من جديد وقال:"أنثاي هي وقد ماتت أو هو ما يحاول الكلّ إقناعي به.. وإنّي لأزعم أنّ الأمر لم يكن منذ أسبوع.. سنة مرّت حتّى الآن.. أو ربّما أكثر.. حقيقة واحدة.. هذا الكأس أمامي لا ريب فيه.. وشمس تغمز الكون بعد قليل لإعلان يوم جديد.. لأخرج منّي.. منها.. من هذا الزّمان لأعود اللّيلة المقبلة أنظّف المكان وأشكوه يتمي وأهيم..
حلمي كأسي إن بقي وقت لشربها.

اشتعال الثلج في يدي وفمي الصحراء.. ترى أ ألحقُ بها أم لا..؟ هي الفرصة الأخيرة وقد تمضي إذا عجزتْ النّفسُ عن تراتيل تنقذ بها هذه الآثار فيّ والزّمان.. لم يبق سوى القليل لي ولها.. لكنّ الحظّ يتضاءل كلّ يوم ورضاها.. الفرصة الأخيرة والكأس الأخيرة.. ما الأمر؟ بل ما الفعل إذا اجتمع الأمران عليّ وليست معي.. ما قد أفعل لو شربتُ الأخيرة وعادتْ.. إنّها قد تعود..بل تعود لأنّها هي وهي لا تموت.

لم أفكّر في الانتحار يوما ولا الفرص الرّاحلة أو الأحلام القادمة.. أنا أبحث عن هدوء لأعيد ترتيب أشيائي فاسرد عنّي يا أنت."

وتبقى الكأس بين الطاولة والشّفتين تقطع المسافات.. تقلع ثمّ تحطّ، لا اليد كلّتْ ولا الكأس نضبتْ ولا الفم يئس من انقضاء الموعد.

قالوا له ذات يوم إنّها هي فأحبّها.. وقالت إنّها ليست من يظنّ فلم يسأل لماذا ولا كيف وأحبّها حتّى اطّلع على أسطورة أُديب أوّل مرّة فقال:"أيكفي أن يفقأ الإنسان عينيه حتّى يُفني الحقيقة؟ وشريكته أكان موتها فَرقا من أمر عظيم أم يأسا من حبّ لا يدوم؟."

حكى لها الأسطورة ومعها الأسئلة جاهدا أن يروي لها مساحات آملا أن تغرسها تينا وزيتونا ونخلا وحدائق.. ثمّ فكّر في عناقيد ترشح خمرا وظلا وارفا وعينا جارية وجزيرة حالمة ونورا على نور وبهجة فقالت:"والذرّية؟"
نظر إليها وارتبك وقلق وفزع وبات يخشاها أكثر ويحبّها أكثر.

لمّا انتهى إليه هذا الكلام أنكر أن يكون قد قرأ أو عرف شيئا عنه، بل غضب وقال:"إذا كان التين والزّيتون والنّخل للسّماء فلتكن جذوعها خوازيق.. أمّا حبّها فكائن وهذه الحانة كوني، أنّظفها كلّ ليلة بعد انصراف روّادها ثم أحرس ما فيها لهم.. أحلامهم وأيامهم .. خلافاتهم وأسرارهم.. خيالاتهم ومغامراتهم.. عشقهم وإحباطهم.. ابتساماتهم..حَبَاب كؤوسهم.. برد أكوابهم وسلامها.. نور نبيذهم.. رائحة تبغهم.. لأسلّمها لهم غدا جميلة سليمة آمنة.

لا مكان يثير الخيالات مثل حانة انصرف عنها روّادها وغرقت نظيفة في الظلام، فلا تحدّثوني بعد اليوم عن المقابر إذا رمتم ذكر الأماكن المفزعة، واسرد عني ولا تحرف."

كانت رحلة الكأس رحلة للموت.. للفناء.. يشربها أو لا يشربها.. فجأة وضع المكنسة والسطل والخرقة وعرقه ولهاثه وجلس إلى نفس الطاولة.. امتدت يده إلى الكأس، حطمها ثم ابتدأ يشرب.. جعة.. الثانية.. الثالثة.. الرابعة.. الخامسة.. السادسة.. اكتمل العدد واكتمل الخلق.. صار بوسعي أن أستريح بعد أن صارت الآن كائنة.. بعد أن خلقتها وعلّمتُ الأسماء فيها.. الحياة.. كم عاندت هذه ال..... لتكون، ولأستريح في السابعة."    

lundi 29 octobre 2012

حكاية الماء وتمثال الحديقة

حكاية الماء وتمثال الحديقة
 

 ما انفكّت قطرات الماء تبلّل شعرها ثمّ تنساب على كتفيها وظهرها لتهيم على مرمر هذا الجسد العاري أنّى شاءت لها تضاريسه المتناسقة لتستقرّ في البركة التي موّهت بتموّجاتها الجمال المنعكس على صفحتها حتى لا يكون لجمال تمثال المرأة مثيل وإن كان انعكاسا له.. كانت كنرجسة سُقيت فنضرت فسمقت.

هواء بارد لحس من قطرات الماء المستسلم للنّشوة على النهد فاقشعرّ الجسد وبرعمت الحلمتان فنفرتا. أُنيرت فجأة مصابيح الحديقة فاحتمى بعض شعاعها بالماء فانكسر فأشعّ الجسد نورا وصار المشهد حلما.

كانت البركة دائرية الشكل زنّارها خضرة وشّتها أزهار تباهى كلّ لون بنضارته فأشعّ المكانُ. كان حول كلّ هذا مقعدان من خشب انتحى كلّ واحد منهما جهة مقابلة للآخر وكنتُ أجلس كما في كلّ مرّة على طرف المقعد القريب من شجرة الصفصاف العظيمة أراقب وأنتظر كما في كلّ عشيّة ولكنّها لم تأت.

 صبيّة جميلة دأبت منذ أيّام ستّة تجلس على المقعد المقابل وبيننا تمثال المرأة وماؤه. لم يبتسم أحدنا للآخر ولم نتبادل حرفا واحدا، ولم تسبقني إلى المكان إلاّ في اليوم الثّالث.. ينظر أحدنا إلى الآخر ثمّ يولّي كلانا بصره صوب التّمثال فيودي المشهد بالزّمن. كانت تضغط أزرار هاتفها الجوّال بعد إنارة مصابيح الحديقة ثمّ تضعه قرب أذنها ثمّ تعيده إلى حقيبتها دون أن تحرّك شفتيها ثمّ تنظر إليّ قبل أن تغادر الحديقة.
اليوم السّابع: لم تحضر.
اليوم الثّامن: لم تحضر.فقلت:" إنها لن تأتي"
اليوم التّاسع: لم تحضر فشعرتُ بفراغ المكان.. أنا لم أكن آتي من أجلها.. كان ينظر أحدنا إلى الآخر مرّة عند القدوم وأخرى عند مغادرتها الحديقة لكنّها الآن أفسدت عليّ عادتي فصرت أشعر بفراغ المكان.
اليوم العاشر: نهاية يوم شتاء شديد البرودة والحديقة خالية من زوّارها كما في الأيام السابقة.. قرّرتُ أن أجلس على مقعدها وفعلتُ. شعرتُ بعد برهة بنظرات تخترقني فالتفتّ وكانت هي. نظر أحدنا إلى الآخر وظلّتْ واقفة فنهضتُ وعدتُ إلى مقعدي فاستقرّتْ على مقعدها المقابل كالعادة. نظرتْ إليّ ثمّ حوّلتْ بصرها صوب التّمثال وفعلتُ فعلها.
     
 أشعّتْ مصابيح الحديقة فضغطتْ أزرار هاتفها وغابت فمضى الزّمن في الحلم.
اليوم الحادي عشر: كان الطقس دافئا منذ الصباح خلافا للأيام السابقة فعادتْ الحركة إلى الحديقة وكانتْ تجلس على مقعدها حين وصلتُ عشيّة كعادتي.. على مقعدي جلس عاشقان تشابكتْ أصابعهما وارتحلتْ عيونهما تصارع الرّغبة والخفر.. أحببتُ المشهد فبقيتُ واقفا. نظرتْ إليّ وابتسمتْ فابتسمتُ ثمّ وقفتْ ودون أن تضغط أزرار هاتفها الجوّال ودون أن تنتظر إنارة مصابيح الحديقة غادرتْ مقعدها ولم تلتفت. فأخذتُ مكانها.. نظرةٌ وصمتٌ وتمثال امرأة عارية ومناجاة عاشقين وماء ينام في حضنه نور.
    
بقيتُ برهة أنظر إلى العاشقين فابتعد أحدهما عن الآخر وندمتُ فانسللتُ مغادرا الحديقة. كنتُ ممتلئا بمناجاتهما.. لعّلي كنتُ أرى فيهما ما تمنيته لي.. وقلت غدا سألحق بها إذا ضغطت أزرار هاتفها وغادرت.
    
حضرتْ في الغد ولم أكن أنظر إليها بل كنت أنتظر. بقيت أنتظر اللحظة الهامة.. لحظة ضغط أزرار الهاتف والمغادرة لأتبعها.. لأكشف هذا السّر.. وأُنيرت مصابيح الحديقة ونهضتْ فوقفتُ لكنّي ارتميتُ من جديد على مقعدي مقنعا نفسي أنّ سرا جميلا دائما أفضل من حقيقة زائلة.

مضى أسبوع على قراري وكانت تحضر كعادتها وابتدأ الصّبر ينفد وصرتُ أعيّر نفسي بالجبن وأنسب إليها كلّ عقد الرّهاب من الجنس الآخر وقد صارت آخر من أذكر قبل أن أنام وأوّل من يتبادر إلى ذهني حين أستيقظ ومضتْ أيّام استولتْ فيه فتاة الحديقة على كلّ مساحة في حياتي حتّى بتّ أتمنّى ألاّ يكون في الكون غير زمن واحد. زمن رؤيتها.
    
توقف ماء البركة عن عبثه المعتاد في بداية الأسبوع الرّابع ولاح لي شيء في التّمثال غريب فاقتربت منه وكانت المفاجأة، التمثال نحتٌ للمرأة التي كنت أرقبها كلّ يوم وقد غيّب الماء عنّي التفاصيل في الأيّام السّابقة، كان النّحتُ توأمها طولا وتفاصيل وجه.. أكانت تحضر لتتأمّل ذاتها في هذا التمثال وهي عارية تذيب الماء رقّة وتذوب فيه سُكّرًا، وقلتُ إن كان وجودها في حياتي يعنيني فعليّ أن أكلّمها وإن كنتُ أريد أن أراها عارية فها هي أمامي وعليّ أن أقرّر. سرّ الرّوح فيها ما أبحث عنه وهو الآن لغز أم سرّ الجسد وها قد أصبح مكشوفا وقلت آن أوان الحقيقة. حقيقتي أنا لا حقيقتها هي.. لكنّها لم تحضر.

دخلتُ الحديقة في اليوم الموالي وقصدت المكان فصعقتُ، لقد أُزيل التّمثال وجُفّف ماء البركة فلم أشأ أن أصدّق أن يُودى بحلم فيوأد قبل أن يبرعم وقلت لقد صار المكان والزّمان وما فيهما حلمي فكيف يودى بحلمي وقلت إنّ التّمثال قد نُقل من مكانه فما عليّ إلاّ أن أبحث عنه رغم قناعتي بزيف الأحلام التي يقع تغيير عالمها الذي نشأت فيه.

 رحت أبحث داخل الحديقة لكنّ الأمل خاب وقلت لم يبق لي إلاّ أن أسأل القيّم على الحديقة وقصدته سائلا عمّا حلّ بالتمثال فابتسم ولم يجب قلت: "المكان صار خاليا بدونه" فقال:" أهدته صاحبته إلينا شرط أن يبعث النورُ فيه الحياةَ مع أنّي لا أفهم كيف فكانت كلّ يوم تجلس في انتظار إنارة المصابيح فإذا لم ترتح للإنارة تعطينا إشارة من خلال هاتفها الجوّال فنحوّر في وضع المصابيح وقد جرّبنا كلّ الأوضاع لكنّ ذلك لم يرضها فسحبتْ التمثال من الحديقة. وضحك باستهزاء وهو يردّد نور يبعث الحياة في الرّخام" وأغاظتني ضحكته التي أبت أن تتلاشى وأنا أبتعد عنه.

Newer Posts Older Posts