samedi 11 janvier 2014

حكاية المقبرة

  حكاية المقبرة


المكان وحش خرافي وجباته آدميّة وماؤه البكاء وعندما تشتدّ ظلمة الشّتاء وتصبح الأشياء أكثر قتامة من أفقي، أرى الوحش الذي عاش في خيالي وأكله كلّ ليلة ملطخا برعبي.. في تلك الليالي التي يفخر الشّتاء أنّها من صلبه يعربد رعدها ويشتعل برقها ليحوّل القبور البيضاء أمامي أسنان مارد يكشّر ثمّ ظلمة حالكة وعاصفة تدخلني بلعوما لا قرار له أعرف أنّ الموت هو الحقيقة الوحيدة وما عدا ذلك فخرافة عجائز قد تُضحك أو تُبكي والتأثير واحد إذا كان، والفضل فيه يعود إلى براعة الرّاوي. قال:" الحقيقة الوحيدة في الوجود هي الحياة لأنّه لولاها لما كان الموت، ألا تراك عجوزا سكنته النّهايات فصار يهذي ليحكي."

أراني أتحدّث عن الزّمان في حين قصدت المكان وإن كنت لا أدري أيدفن المكان أم الزّمان في الذّاكرة ؟ أتدفن الأبعاد أم يدفن التّاريخ؟ وأرتجل إجابة تافهة لأرتاح فأقول يجب ألاّ تكون الذّاكرة كفنا ولا الخيال مقبرة لذا وجب أن أحكي.. وكنت في الليالي التي تضيئها البدور أعشق أن أحكي وكانت شواهد القبور توحي إليّ بمن فيها فتختار حكايتي سامعها وأحكي.. أحكي حكاية الشّيخ.. حكاية المقبرة.. حكايتي.. أمّا حكاية الحكاية فهي أنّي وصلت هذه المقبرة آخر نهار بعد أن ضربت في الأرض أيّاما فأحلّني عزمي هذا المكان وقرّرت أن تنتهي قصّتي فيه. بدت لي المقبرة للوهلة الأولى فسيحة مكتظة قبورا فقلت كيف يعرف الأحياء موتاهم في هذا الزّحام وقلت يعرفونهم لأنّ الموتى لا يسكنهم جوع أو وَهْمٌ أو خيال فيضربون في الأرض لذا يعرف الأحياء أمواتهم كما قد يتعرّف بعض الأحياء عليّ بين الملايين فيكون ما أخشى.. إنّنا دوما معروفون منعوتون وإن خلنا غير ذلك.

في ركن قصيّ بعيد عن القبور غرفة بدت لي مهملة فقلت ألتجئ إليها فأتّخذها مأوى حتّى أتدبّر أمري وجيرة الأموات لا تؤذي، لكنّ شيخا خرج فجأة من الغرفة وهو يصيح بي:
- أنت.. قف عندك هناك.. انتهى وقت الزّيارة.
انتفضت فزعا ويبدو أنّي صرخت رعبا لكنّ المؤكّد هو بقاء شعري منتصبا كقنفذ أحاطت به الكلاب رغم العزم الذي تصنّعته.. قلت وقد دنا مني:
-  ومن تكون أنت؟
-  أنا حارس المقبرة
-  أتحرس أمواتك من الأحياء أم تراك تحرس الأحياء من طيش أمواتك؟
-  فزعك في ظرفك كجيفة في كفن جميل. أنا أحرس المقبرة.
-  كأنّي أعرفك
-  العالم قرية صغيرة
-  وهي بائسة أيضا
-  كلّكم سواسية تعشقون الحياة وتذمّون العالم
-  أمّا أنا فلا أعشق الحياة. أتقدّم لي معروفا؟
-  إن استطعت إليه سبيلا. قل ماذا تريد؟
-  أريد أن أموت فتدفنني دون أن يعلم أحد عن ذلك شيئا.
-  لذا حضرتَ إلى هذا المكان.
-  أجل.
-  ومن سيقتلك؟
-  سأنتحر.
-  مهووس آخر.. الموت ليس جثّة يواريها التّراب يا بنيّ.
-  أفي كلّ ركن أبحث فيه عن خلاصي يجب أن يقوم لي فيه فقيه أو نذل.
 شعرت بدوّار فجأة ثمّ بيد تهزّني فانتبهت وإذا بي مبلّل الشّعر والوجه ممدّدا على حشيّة. قال الشّيخ:
-  ها قد أفقتَ.. ماذا بك؟
-  قلتُ يبدو أنّه الجوع
-  لا عليك ستأكل
-  لستُ في حاجة إلى طعام. أين أنا؟
-  هنا.
-  وهنا أين؟
-  في بيتي وأنا أدعوك إلى طعام.
-  أخبرتك أنّي أريد أن أموت.
-  ستموت.. ومت كيفما شئت ولكن لا تمت جوعا.
-  ألا تسألني من أنا؟
-  تعوّدتُ مذ سكنتُ هذه الغرفة في المقبرة أن يجاورني كلّ يوم ضيف أو أكثر فلا أسأل عن اسم أيّ منهم.
-  وما اسمك أنتَ؟
-  أنا الذي كلّما سكر أحدهم على مائدة عزرائيل يؤتى به هنا ليدفع فيجاورني.
-  ما معنى أن يسكر على مائدة عزرائيل؟
-  تريد أن تموت ولم تسمع بسكرات الموت..!؟
-  سكرة الموت هيّ شدّته.
-  دعك من أوهام المعاجم التي أقنعوكم أنّها العالم في كتاب فتوهّمتم أنّكم تعرفون كلّ شيء ألا ترى أنّها تقول ما يجب أن يقال دون خيال. تقول الأشياء كالجثث دون روح إنّما هي أرواح تسكر على طاولة عزرائيل فتأتي هنا لتدفع، هكذا علّمتني السنوات التي قضيتها بين هؤلاء (وأشار إلى خارج الغرفة) وأدّعي أنّي أعرف عن هؤلاء أفضل منك بل أراك لا تزال غرّا لا تعرف عنهم شيئا لأنّك جئت كي تموت دون أن تكلّف نفسك فتسأل لماذا.
-  وهل تراني قرّرت ما قرّرت دون أن أسأل؟
-  أراك لم تسأل السّؤال الصواب إذا.
-   وما هو السؤال الصّواب؟
-  تلك هي المسألة
-  المسألة؟ قيل أن نكون أو لا نكون.
-  بل قل أطرحنا على أنفسنا السؤال الحقيقي أم لا. تلك هي المسألة وكفاك نقاشا وهلمّ إلى الأكل فهو أكثر نفعا بالنّسبة إلى من كان في مثل حالك.

أشار بيده إلى ركن في الغرفة فكانت الأطباق عديدة وكأنّ وليمة جُهّزت. قلت:" كم ضيفا تنتظر؟" فابتسم ولم يجب فأضفتُ:"إن كنتَ بمثل هذا الثّراء فلمَ إقامتك هنا؟
-  هو البذخ.. أليس هذا ما تريد قوله؟
-  بلى إن كان هذا دأبك كلّ ليلة.
-  أنا لست مظلوما إذًا.
-  ممّن؟
-  من البشر
-  وما دخل البشر في ما نحن فيه؟
-  هي نظرة البشر إليّ.. أصحاب الخير أو المغفّلون واسمح بهذه التّسمية يأتوني كلّ ليلة بما أقتات به صدقة على أرواح موتاهم فاقترب لنأكل ولا تنس أنّها ليلة الجمعة أي أفخرها أكلا وأكثرها أصنافا. يبدو أنّك محظوظ.

اقتربت من الأكل فوجدت الشّيخ قد وضع أمامه زيتا وزيتونا وبصلا وقارورة خمر. غمس قطعة خبز في الزّيت وضع عليها حبّة زيتون وقطعة بصل ثمّ سكب بعض الخمر في الكأس وقال:
-  أتشرب؟
-  أشربُ
-  كفّ عن الطّعام الذي بين يديك فتلك مائدة عزرائيل.
-  وكلّ هذا لمن؟
-  هذا ليس لك.. قل أهارب أنت؟
وشعرت بالخوف فجأة فواصل:
-  هارب من ذاتك.. أليس كذلك؟ سمعتُ شيئا من حكايتك منذ حين وكنتَ تهذي وإن كان ما قلتَه صدقا فاعلم أنّي أحترمك
-  وماذا تراك سمعت؟
-  كلّ الخير. لذا أدعوك إلى الابتعاد عن ذلك الأكل أمامك وإن بدا لك طيّبا وتعال شاركني طعامي هذا لأنّ ما أدعوك إليه أنقى وأشرف، كسبتُه بعرق جبيني فاشتريتُه بأموالي التي أحصل عليها من طلاء القبور فأنا لا أقبل صدقة ولا أقرأ قرآنا على الأموات. أريد أن أعيش حرّا كما قلتَ أنت في هذيانك منذ حين وأن تكون حرّا هو أن لا تجعل نفسك في حاجة إلى شخص أو شيء.
-  وهذا الطّعام،وكلّ هذا اللحم، ما تصنع به؟
-  ألقيه للكلاب فهي أهل له أمّا أنت فاسمح لي بأن أمنعك عن أكل ذلك اللحم لأنّك لست كلبا، وإن تاقت نفسك إلى اللّحم فأنا أعدك أن نشتري غدا لحما وخمرا كثيرا إن أعجبتني قصّتك. اشرب ثمّ قصّ علىّ قصّتك وأعدك أنّي أسقيك ما دمت تحكي.
-  قد تكون قصّتي مملّة.
-  إن تنزع هذه السّاعة عن معصمك فلن تكون قصّتك مملّة إنّ الملل هو أن تنشغل بساعتك وتطلى أيّامك بالأبيض.
-  كهذه القبور.
-  ككلّ القبور وذا ما قادك إلى ما اعتزمتَ القيام به ثمّ لا معنى لهذه السّاعة في معصمك في مثل هذا المكان.
-  وأين تريدني أن أضعها؟
-  سلّمها إليّ وأسمعني قصّتك كاملة فإذا هشّمتُها في الخاتمة فهذا يعني أنّي أسمح لك بالبقاء هنا في سلام وإن أعدتها إليك فمعنى ذلك أن تغادر المكان عند الفجر دون سؤال.
-  وإن أعجبتك الحكاية ولكنّها لم تقنعك فما القرار؟
-  سأكون كبعض النّاس، إن لم يقتنعوا شوّهوا الحقائق ليقنعوا أنفسهم كي يرتاحوا.
-  أتفعل ذلك من أجلي .. من أجل أن أبقى؟
-  من أجل أن أفعل ذلك فقط فلا تجعل الوهم يفسق بكبريائك.
-  إذن تسقيني فأحكي.
-  أسقيك. خذ القارورة والكأس ولا تبحث عن غيره فليس لي آخر ولنخرج من هذه الغرفة.
حملتُ القارورة والكأس بعد أن التهمتُ قطعة خبز كبيرة غمستها في الزّيت وسبقني الشّيخ إلى مكان ليس بعيدا عن الغرفة فحمل حجرا وطلب منّي الجلوس ثمّ سألني أن أبدأ حكايتي وراح يأتي بحجر غيره يجلس عليه قائلا:
- أحبّ أن أنظر إلى القبور وأنا أشرب لكن لا أريد أن أجلس بينها أو عليها لأنّي متى متّ لا أريد من يدوس على قبري كما لا أريد من يدوس على حياتي. هيّا هات حكايتك.
- أمّا رواية المشاهد والتّفاصيل فمهارة لا أدّعيها أمّا مجمل الحكاية فهو أنّ المبادئ لدى البعض لغة متعفّنة تزوّقها البلاغة والعديد منهم يدّعي الواقعية ليخفي انتهازيته
-  هذه ليست حكاية فلا تسمح لخيالك بخلق أشباح تنتهي بك إلى كوابيس تؤرّقك فأغلب ما نخشى هو من خلق خيالنا.. الإنسان وحده يخلق أشباحه وسفّاحيه فهات الحكاية.

صرخ بي فجأة " هناك اقتلها لقد نهشتني"
أسرعتُ فإذا هي حيّة تسعى تركتُها وأسرعتُ إلى الشّيخ فقال:
- يجب ألاّ أتحرّك حتّى لا يتسرّب سمّها في جسدي فاربط رجلي وائتني بشفرة حلاقة تجدها على الصّندوق قرب الباب نخرج بها الدّم المسموم"
وأسرعتُ لكنّي لم أعثر على شفرة الحلاقة وبحثتُ عن سكّين فلم أجدها عدت إليه فوجدته ملقى أرضا يتصبّب عرقا وبدا فاقد الوعي.

وجدتني حائرا بين أن أنقذ الشّيخ ليكون ما جئت من أجله وقد بدا لي أنّه ابتدأ يقتنع وأن أتركه يموت فأستولي على الغرفة وأفكّر من جديد.. كنت متردّدا بين أن أكون فقيها أو نذلا والزّمن في مثل الحال عدوٌّ.. بقيتُ أعدو بين الصّندوق أبحث عن شفرة الحلاقة أو السّكين وبين الشّيخ أطمئنّ على أنّه لا يزال على قيد الحياة وفجأة لمحت ساعتي فأخذتها بسرعة وكسرت زجاجها وجعلت أشرط جلد الشّيخ وأمتصّ ثمّ أبصق وكرّرت العمليّة لكن لا تقدّم في حالته فهرعت إلى الطّريق وقد اتّفق خروجي من المقبرة مع مرور شخصين فقلت:" النّجدة أرجوكما." فصرخ أحدهما وزعق الآخر:" ويل لأبيك اركض ميّت يلاحقنا." وركضا ينشدان السّلامة.

شعرت بحشرجة خلفي فالتفتّ فزعا وإذا بالشّيخ ورائي فقلت:
-  ما كان عليك أن تنهض
-  أراك قد اخترت وقد كسرتَ السّاعة.. انظر هناك.. سيّارة.. أوقفها
ارتميتُ أمام السّيارة فوقفتْ. استعنت بصاحبها ومرافقه على حمل الشّيخ بعد بذيء كلام من صاحبها ومرافقه وتفسير من قبلي.
قال الشيّخ:
-  المقبرة عهدتك فلا تمت حتّى أعود لنكمل حكاية الحكاية.
-  لا تمت أنت أرجوك.
ابتسم الشّيخ قبل أن يتّكئ عليّ.. احتضنته وشعرت بالرّغبة في أن أقول " لقد كسرتُ السّاعة من أجلك فلا تمت أرجوك.. المكان وحش خرافي بدونك." ولكنّي لم أقل ولم يقل الشّيخ شيئا.

   


0 التعليقات:

Enregistrer un commentaire

Newer Posts Older Posts