mercredi 29 janvier 2014

مطاردة


     مطاردة


  لم يتبدّد ظلام هذا الصّباح الشتويّ بعد. كانت السّاعة تشير إلى تمام الخامسة. صقيع شديد جعل هاشم يدخل عنقه بين كتفيه، ويضمّ ساعديه إلى جذعه. تجمّدت أذناه أو كادتا وبقي أنفه يفرز. أصابع يده اليمنى الممسكة بقفّة وضع فيها غداءه لم يعد يحسّ أنّها منه. قشعريرة كانت تهزه من حين إلى آخر يرتفع معها أعلى الظّهر ثمّ ينخفض. بشرة الوجه تقلّصت فكأنّها تحترق حتّى أنّه صار لا يعرف إن كان الألم الذي تحدثه أكثر أو أقلّ من عين السّمكة في إصبع رجله الصّغير وقد استوصى بها حذاؤه الضيّق لأنّه كان في الأصل لأبيه.
         
 أعمدة الكهرباء تصدر أسلاكُها أصواتا وقد حطّ عليها النّدى فأفزعته أكثر من أيّ يوم مضى فترك الرّصيف. فاجأه موقفه إذ خاف من الموت. فحياة مثل التي يعيشها هل تستحقّ أن يخاف الإنسان عليها؟ هكذا أحسّ فجأة ومع ذلك التزم سيره وسط الطّريق. قرّر فجأة أن يسرع الخطى علّ بعض الدّفء يرحمه ولكنّ وصوله إلى محطّة الحافلة قبل موعدها بكثير يجبره على الوقوف وقد يكون الموقف عندها أسوء فعدل عمّا عزم عليه.

البرد هو البرد كما الحرّ هو الحرّ وقد قاسى كليهما بعد حصوله على شهادته الجامعيّة وهو يعمل منظّف حاويات في شركة تخزين الزّيوت في انتظار وظيفة ينقذ بها حلمه ويحمي بها مشاق سنوات الدّراسة من الضّياع حتّى يفخر بمعاناته من أجل الشّهادة في زمن أصبح النّجاح فيه يخلّف إحباطا أكثر من الفشل. انتبه فجأة إلى أنّه يسير من جديد على الرّصيف.. وقعُ خطواته الرّتيب أزعجه كقطرات حنفيّة يتسلّل صوتها إلى الأذن في الظلام قبيل النّوم. فكّر في إشعال سيجارة غير أنّه لا يمتلك سوى اثنتين يجب أن يتركهما لوقت الضّيق إذ تأبى عليه نفسه أن يطلب سيجارة من أحد.
     
انطفأت أنوار الشّارع فجأة فشعر بالوحدة. طأطأ رأسه حتّى يتبيّن موطئ قدميه وإن لم يكن في حاجة إلى ذلك فالعتمة كاملة قد تتجلّى أحيانا أمام بيت ترك أصحابه مصباحه الخارجي منيرا إيهاما بحضور أو تثبيطا لعزيمة لصّ. مرّت به سيّارة لم يتبيّن نوعها جيّدا ولكنّه قدّر أنّها من النّوع الذي طالما حلم باقتنائه وهو يعود بشهادة ختم دراسته الجامعية، مرّت السّيارة وقد خلّفت فيه ذكرى جميلة كانت ذات يوم عندما كان على مقعد الدّرس، يوم كان الحلم مشروعا أمّا الآن فقد تركت في نفسه بعض الأنس في هذا الظّلام الدّامس ووجد نفسه يسرع الخطى في أثر ما بقي من صوتها.

وصل المخبز فدخله حتّى يبتاع نصف خبزة.. جنّة هذا المكان مقارنة ببرد الشّارع. انحنى ليضع القفّة أرضا فاتحا أصابعه بعناء شديد.. استقام من جديد فبشّ الرّيس منصور في وجهه وبادره بتحيّة الصّباح ولم ينتظر الرّيس الردّ بل واصل " كيف حالك يا ابني؟ لم تمرّ منذ أيّام، قلتُ لعلّ الله فتح عليك. ألم يأت الله بالفرج بعد؟" وردّ هاشم السّلام ثمّ بإشارة من رأسه نفى الفرج الذي بات يطارده منذ ثلاث سنوات تاريخ تخرّجه من الجامعة ولئن قبل على مضض خلوّ سوق الشّغل من وظيفة أثناء السّنة الأولى بعد التّخرّج فإنّه بات يائسا في السّنة الثّانية وناقما في الثّالثة خاصّة بعد أن رفض مطلبه لمواصلة دراسته العليا في المرحلة الثّالثة.

انسداد أبواب الشّغل وأبواب الدّراسة أمامه جعلاه إنسانا آخر. قال للرّيس منصور:" كان في تقديري أنّ هذا الوطن هو وطن الجميع فلماذا يقرّر البعض فيه ما يروق لهم، حتّى المعرفة نُمنع من مواصلة التّخصّص فيها بدعاوى يُسقط بعضها البعض الآخر." ردّ الريّس منصور :" يأتي الله بالفرج يا بنيّ الحمد لله أنّ أباك لا يزال على قيد الحياة. لقد سمعتُ أنّه بإمكانك الحصول على قرض لتقيم مشروعا" وقدّر هاشم أنّ الرّيس لا يفهم الوضع جيّدا فما هو المشروع الذي يمكن أن يقيمه مجاز في مادّة التّاريخ كما قدّر أنّ الرّيس لا يستطيع أن يفهم حقيقة ما يشعر به لكنّه رأى في حسن معاملته وسؤاله عنه في كلّ مرّة تعاطفا مع وضعه ثمّ عليه فعلا أن يحمد الله حين يقارن وضعه بحالات أخرى. انحنى من جديد ليأخذ قفّة الغداء بعد أن وضع فيها الخبز وودّع من في المخبز عمّالا ودفئا وارتمى في قسوة البرد والوحدة من جديد.

   وصل محطّة الحافلة، شعر أنّه يغالب فكرة ما فتئت تلحّ عليه، أن يغادر البلاد، أن يترك كلّ شيء أمّا الوجهة فلا تهمّ إذ الهواء والطّعام والأرض والنّاس في كلّ مكان، أمّا الشّعور بالغربة فترف فكريّ لمن وجد الوقت للتفكير في قضايا المكان والوجود بعد أن أدّى عملا ارتضاه وكسبا ضمنه فالفقر في الوطن غربة وقال :" صدقت يا أبا حيّان، نعم وما أقساها."

وصلت الحافلة  ففكّر ألاّ يركبها " يجب أن أصل متأخّرا  -قال- يجب أن أرى اليوم ما سيفعل معي ذلك الخنزير، فما نقص من ذهنه استولى عليه لسانه وقاحة ونميمة، أيّ زمن هذا الذي يُسيِّر فيه أنصاف المتعلّمين والوصوليون أقدار النّاس؟ يجب أن أجمع المبلغ وأهاجر، سأجمعه نعم لابدّ أن أجمعه".

 هدأت نفسه وقد هدأ هدير الحافلة وهي تقف في المحطّة.. فُتح بابها فركب. دفع ثمن تذكرته وارتمى على مقعد وقد تغافل القابض عن ردّ تحية الصّباح التي بادره بها هاشم.. واصلت الحافلة هديرها.. وضع القفّة بين رجليه.. أحسّ باهتزاز كلّ شيء.. داخل الحافلة وداخل نفسه.. تذكّر أيّام كان يصعد الحافلة وهو يحمل كتبه ويرفع في وجه القابض بطاقة اشتراكه.. لم يكن وحيدا أغلب الأحيان خاصّة في السّنة الأخيرة أيّام كانت ليلى حُلمه.. ليلى الحبّ ومشروع الزّواج ومواصلة الدّراسة العليا ومراجعة الدّروس المشتركة والبحث والنّشر المشترك.. ليلى التي لم تفكر حتّى في الرّد على مكالماته الهاتفية بعد أن اشتغلت منذ أسابيع التّخرج الأولى.. كان يريد أن يعرف الحقيقة منها.. حقيقة انفتاح الأبواب بهذه السّرعة أمامها وذاك من أبسط حقوقه على شريكة حلمه وقد تعدّدت الأقاويل في شأنها وهي مريبة في جملتها.

       وصل المحطّة الرّئيسيّة فأسرع إلى الحافلة الثّانية التي ستقلّه إلى المصنع، هناك حيث ذلك الخنزير "كيف يسمح لنفسه أن يفكّر أنّي أنافسه على منصبه؟ إنّ ما يؤلمني أن يفكّر أنّي بعد كلّ سنوات الدّراسة يكون أقصى طموحي أن أصبح رئيس عمّال تنظيف حاويات الزّيت، لقد كان عليّ أن أتكلّم يوم سمع أنّي خرّيج جامعة، ما زلت أذكر احتقان وجهه وهو يقول لي أمام الجميع:" إنّ عملنا هذا لا يحتاج شهادات بل خبرة وهو ما لا تمنحه كتبكم ولا شهاداتكم ولا استعداداتكم الشّخصية، فجيلكم هذا  جيل الرّقص والنّجاح السّهل وأصدقك القول إنّه لا ثقة لي بكم فعليك أن تثبت ذاتك وجدارتك أو أنّ كثيرين غيرك ينتظرون". وكنتُ جبانا يومها إذ لم أجب، فلم أثبت ذاتي، كنت مستعدّا لكلّ شيء مقابل ذلك الأجر الزّهيد حتّى أجمع ثمن خلاصي النّهائيّ من ذلّ البطالة والإحساس بالغبن. يجب أن أحصل على سعر التّذكرة والتّأشيرة إلى أيّ بلد أواصل دراستي فيه وحياتي، نعم وجب السّفر وإن كان عبر التّسلّل في مراكب الموت لتلقي بي مع جملة المهمّشين على شطآن لا يعلم أحد ما تخفيه ولئن كنت لا أعرف طريق المراكب وقراصنة البحر فإنّ استعدادي للدفع السّخي سيرشدهم إلى طريقي ووقتها لا يهمّ أيّ بلد سيحتضنني  أو قاع بحر يواريني.. لا يهمّ كنت حيّا وقتها أو ميّتا حتّى لا أُتّهم بحياة أنا لا أعيشها؟"

بلغت الحافلة نهاية خطّها فنزل وبقي عليه أن يقطع بقيّة المسافة على رجليه. كان البرد في هذا الخلاء نقمة انتصب له شعر جسمه أمّا وقد تذكّر كلب الأمس الذي فاجأه فقد انتصب له شعر رأسه فالتقط حجرا وتابع سيره مسرعا ممنيا النّفس أن يلحق قبل الوقت حتّى يتحلّق حول النّار مع الزّملاء وكانت تروقه بساطة حديثهم. مرّت به سيّارة في الطّريق يراها في الموقف أمام المصنع توقّف صاحبها ليأخذه معه.. صعد وألقى التّحيّة وشكر وهو لا يعرف صاحبها فقد أُفهم منذ اليوم الأوّل أنّه يحجّر على العمّال دخول الإدارة أو هكذا أفهمه الخنزير رئيس العمّال. وصل المصنع فأعاد شكر صاحب السيّارة ونزل وهو يلقي بالحجر الذي التقطه منذ حين فقال له مرافقه:"يبدو أنّ أحدا ألقى علينا شيئا." فاعترف أنّه من ألقى الحجارة وقصّ هاشم حكاية كلب الأمس فضحك المسؤول وهو يردف:"أ كنت ستحتاجها ونحن في السيّارة؟" وانبرى يضحك وهما يدخلان باب المصنع.

   وجد بعض الزّملاء حول النّار فالتحق بهم إذ لا تزال أمامه عشرون دقيقة لبدء العمل وإذا برئيس العملة يقصده ودون أن يردّ على تحيّة أحد من الجالسين قال له "إذا كان المدير طيّب القلب فأخذك معه في سيّارته أو إنّه ابتسم حتى لا يكسر خاطرك لتفاهة قد تكون تفوّهت بها فذاك ليس سببا لتسرقه. إنّ أحدا آخر مكانك يحترم نفسه ويفهم أنّه جاء ليعمل لا ليجلس حول النّار. إنّ إضاعة الوقت بالجلوس حول النّار سرقة يا هذا ثمّ كيف تتجرّأ وتوقف سيّارة مديرك؟ والأدهى أنّك تتظارف ليبتسم إليك. انتبه يا هذا  فمكاني هنا لا أحد يقدر على اغتصابه منّي ولا حتّى شهادتك الجامعية لذا إمّا أن تلتزم بعدم إزعاج المسؤولين والتّملّق وأن تلتحق بعملك في أوانه أو فخذ حسابك وعد من حيث جئت وهو آخر إنذار أوجّهه إليك وإذا كانت شهاداتك لم تعلّمك احترام الآخرين فبل عليها أو سلّمها إلى أمّك تضعها في النّار وترقيك بها وحياة فيها أصحاب شهادات مثلك أنا أبول عليها، هيّا قم إلى عملك" واستدار لينصرف. فجأة حدث كلّ شيء بسرعة إذ لم يعد يذكر كيف ارتمى على رئيسه ولا كيف دفعه فوقع وجهه في النّار فكلّ ما يذكره هو بعض الزّملاء الذين كانوا يحاولون إسعاف رئيسهم وهو يصرخ "أنقذوني إنّي أحترق لم أعد أرى" في حين انبرت أيدي بقيّة الزّملاء تمسك به وهو يصرخ فاتحا أزرار سرواله :"لقد حطّم هذا الخنزير حياتي بعماه فدعوني.. يجب أن أبول عليه لينطفئ ما في نفسي.. يجب أن أعلّمه قبل أن أدخل السّجن أنّ كلّ واحد قد يبول على الحياة والشّهادات بطريقته إذا وجب."

3 التعليقات:

chraigui a dit…

قصة متكاملة من بدايتها لنهايتها امتعتني لانها لامست واقع الكثير من المنسيين شكرا جمال

Unknown a dit…

@مروان
مروان
مرحبا صديقي/أخي الفاضل
قصة تتكرر وإن اختلف الوضع.. ما يعيشه أصحاب الشهائد مؤلم فعلا.. وهو ما دفعني للكتابة في الموضوع.. كم هي صعبة هذه الحياة في الزمن الأخير.. ويبقى الأمل.. سيكون صديقي.. دمت الوفيّ كما عهدي بك

chraigui a dit…

يكفي احساسك العالي بالغير وهو خير رسالة يوجهها مربي فاضل لهذا المجتمع .. تحياتي :)))

Enregistrer un commentaire

Newer Posts Older Posts