jeudi 8 mai 2014

حكاية الملح وألواح المراكب

           
  
حكاية الملح وألواح المراكب

طلائعُ هذا الشتاء تُقدّم لموسم قاس.
 آخرُ عشي.. توابيتُ الأفق تبتلع الألوانَ فالمدَى يَقْصُرُ.. أمواجٌ تأتي الشاطئَ محملة بآخر أخبار الضياء تَقْطَعُ روايتَها أصواتُ النّوارس.. وكَانَـا جالسين على الشاطئ.
البحرُ يَطويه الغروبُ والشّمسُ مُتَوَاطئة تمنح شَفَقَ المغرب زكاةَ ذَهَبها وزيادة قُبيل الرّحيل احْتسَابًـا للمشرق وابتغاءَ مرضاة الأزرقين ليكون أملٌ وليكون فجرٌ آخر.                                                                                         
قد يكون هذا الغروبُ آخر ما يتقاسمانه معا، هكذا قدّرتْ قبـلَ أن يتنهد فادي ودون أن يحوّل نظره عن البحر قال: أسمَاءُ…أَ بَقي في القلب فسحة تَسعُ لحظة وداع قُبَيل الرحيل؟
رَمَقَتْه بنظرة حائرة ثمّ حوّلتْ بصرهـا صوبَ الأزرق الممتد بكبرياء وسادَ صمتٌ. ضغطتْ حصاةً كانت تَعبث بها ثمّ ألقتها في الماء بعنف وقـالت:
ما تفتأ ترفعُ أشرعةَ الخيال وترحلُ إلى أقاصي الدُّنَى والبحار النائية بحثا عن مجاهل الجزر وَوَحْشِيِّ الحياة، ألا قرار تحطّ عليه فتُقيمَ فتَستريحَ وَتُريحَ؟                   
قال: أقمتُ حينا من الدهر فحاصرني الوجودُ وكان التّفكيرُ. وسكتَ.             
 قالت: ثمّ ماذا؟
 قال: حين يُضحي التفكيرُ في الوجود عملا ذهنيا مُمِلاً يبدأ العدمُ.
قالت: لذَا اخترتَ الرحيل بديلا، قُلْ، أَتراكَ تقتلُ العدمَ أم تَقتلُ زمنَ التّفكير فيه؟
قال: أنا لا أقتل يا أسماءُ.. القتلُ عجزٌ
قالت: والرّحيلُ؟
قال: هو لونٌ من التفكير تُسنده المسافاتُ.
 لم تكن المرّةَ الأولى التي حاولتْ فيها إثناءه عن الرَّحيل لكنّ إصراره هذه المرّة بدا لها ثابتا فانثالتْ عليها الأفكارُ وابتدأتْ تنهشها الخيالاتُ مع تراجع الرؤية ودُكنة الأشياء.
 وعمّ الظلامُ المكانَ.                                                   

 شعرتْ بالوجل بين سماء سوادٍ ونشيج مكتوم يرافق أنّاتِ الأمواج فنبّهَتْهـا حكاياتُ الطُّفولة إلى أنّ للأرواح أشكالا تُرى إذا اشتدّ الظلامُ فالتصقتْ بفادي.
وهبّ نسيمٌ.
قال: للّيل رائحةٌ لا يعرفها إلاّ العشّاقُ.
وضعتْ رأسها على كتفه وتشّبثتْ به فلفّها بذراعه وبكتْ. أضاف: أسماء لا تخافي.. ستظلين في البال رائعة فالمسافر يحفظ دوما آخر اللحظات ثمّ لا يسعفه الخيالُ فيرى ما تغيّر بعد الرّحيل، وأنتِ يا جميلتي قد تتغيّرين، فابقي في خيال مسافر نحتا رائعا أفضل من واقع قد لا ينصفك.
 وارتابتْ .. إنها الرحلة التي لا يعقبها العَوْدُ.
قالت: وأنتَ؟                                                                      
قال: أنا.. أنا سافرتُ قبلكِ هروبا واستجرتُ بك حين لقيتكِ لكني أرى الترحالَ قد استبدّ بي فهو فيّ عضالٌ.
قالت: ومن لكَ في غربتكَ؟
قال: خيالي والمسافاتُ إذا عشتُ
قالت: وإذا متَّ؟ فمن يكون لكَ؟
قال: ومن يكون للأموات يا أسماء؟
قالت: أهلٌ وأحبّاء يبكونهم.
قال: إذا كان لابدّ من بكاء ليصحّ الموتُ فأنا ستبكيني كلّ ذرّة رمل اتخذتْ ثيابي أو حذائي مطيّة فصارت من مكان إلى آخر.. سترثيني الدّوالي ويرتدي العنبُ السّوادَ.. ستذكرني كلّ الحانات التي مررتُ بها.. والكؤوس ثكلى ستبكي أنخابا خوالي.. ستنكس الأنوار وتغلق كلّ حانة بابها حدادا عليّ.. سيكفّ حَبَابُ الكؤوس عن اللهو.. وسيكون ذاك دون رضاي، لأني إذا كنت في النّزع الأخير سأقول لإلهي.. يا إلهي املأ كأسي مرّتين ثمّ قدني إلى الجحيم إذا شئت.. وهل تشاء وأنت تعلم أني عشت الحياة كما فهمت؟                                                                         
ترقرق في عينيهـا الدمع من جديد وابتعدتْ عن فادي قليلا وقد شعرتْ بفراغ كبير عجزَ ضوء القمر الذي أطلّ فجأة عن احتوائه.. تحوّلت الغصص الأولى نشيجا وقالت
إذا ارتحلتَ فأين أختفي لأدفئ حلمي...؟ ومن كنتُ أخادع حين أقنعني حضورُك بأن أحرس أمـلا عزّ عليه اليوم أن يمنحني بابا أفتحُ أو أغلقـه على هواي...؟ من كنتُ أخادع حـين أبدعتُ من حلمي غيثا أُرَوّي الـرّبى العطشى به وإذا بي أُمنع من قطرة ماء أضعها في منقار عصفور كسر الهمّ مداه...؟ آه يا زمن الأخطاء آه…من كنتُ أخادع حين أبدعتُ من روحي شمسا أهزم بها سوادَ القلوب وأنا التي مُنِعَتْ عليّ شمعة واحدة أوقدها لعاشق أو قديّس أو إلاه...؟ آه يا زمن الشّماتة والدموع والأسى …آه يا زمن العناء.
        لفّها فادي بذراعه من جديد وهمّ بتقبيلها فدفعته عنها مضيفة في شبه صراخ:
فادي، إليـك عنّي لأني متى داستني أنانية أضّلتْ القلبَ وأتلفتْ الهُدبَ وهتكتْ الحجبَ وأعدمتْ الضياء يصير بوسعي أن أقـول لا.. لا لجحيم تَحمل حطبه من حقول قضيتُ العمر أحرس أشجارها وأمنع الدمار عن أزهارهـا والبِلى عن ثمارها وأنا.. من شكّتْ أنْ لا خضرة فيها ولا ألوان لأزهار توشيها ولا ثمار تعطيها.. أنا من شكّتْ أنّكَ الراحـل دوما حبيب المسافات لا حبيبي أنـا.. أنـا التي قضيتُ العمر في التجميـل والتعليل والتعتيم يصير الشّوكُ الذي جمّلتُه يوما وَقُودَ جحيمي... نعم قـل لإلهك أن يسقيَك ما شاء من الأقداح وأن يُدخلك الجحيم إذا شاء ولكن فلتعلم أنّ لكلٍ منّا جحيمه يا فادي.. لكل جحيم مختلف.. وقد يكون جحيمُك عالمك الذي تغتاله بالسفر وهو أهون من ترويض الحياة في الذّات.. الفرق بيننا يا فادي أنّكَ تَبتعد وتُبعد إذا لم تجد معنى لذاتك في حين أقتربُ أنـا لأني أبحث عن معنى للحياة أقدّمه إليكَ وفرق بين من تُرك للنّسر يأكل كبده من أجل افشاء سرّ النّار وآخر يشعلها في مبخرة من أجل معبد شاده الوهم
 ردّ فادي بعنف: أسماء حين يعجز الكتمانُ عن كبتِ الألم ولا يسعفُ الهروبُ القلبَ الكَلِم أغمسُّ الأشياء القبيحةَ بالجميلة حتى أتمكّن من استساغتها فهل يجب في كلّ مرّة لا يتوازن الكرسيّ فيه أن يوضع إصبعي تحت ساقه ليتوازن فيرتاح من فوقه؟ أو إذا أظلم في الوجوه السبيل أن يكون دمي وقودا ورأسي فتيلا لتنجلي العتمة..!؟ 
قالت: مسافاتك إذن خرساء قد تصف الآخرين لآخرين كما فعل الرّحالة إن حشرتَ نفسك ظلمـا بينهم فقد تصف البلاد والعباد، قد تصف الأعياد والمآتم وقد تصف الملابس، قد تصف العادات ولكن عاجز أنتَ أن تصف ذاتك، وما النّفع إذا...؟
قال: أنا لا أصف يا بروميثيوس أنا أبحث وستنبت آثار خطاي.
قالت: زَعْمُكَ مفضوح مردود يا فادي.. بل قل إنّك تفرّ أمّا آثار خطاك فستمحوها امرأة أو كأس بين وقفة وأخرى.
وَهَمَّ بالكلام لكنها واصلتْ: تأكّد أني أحترم ما تفعل ولكنّ الزمن لا يفعل إن السّنوات تتساقط من أعمارنا كأوراق الشّجر فتعرّينا، ثمّ هل من احترام لإنسان لا يعرف الحقيقة التي من أجلها يحيا أويموت.. إنّك تدمّر نفسك يا عزيزي.. أجل أنت تدمّر نفسك ويا خراب من كان دماره في روحه.. أتفهمني يا عزيزي...؟
حانت منه لفتة غضب. وشعرا أنّ الموقف قد صار سوءا.
قال فادي وقد نهض: لِنسر قليلا.
قالتْ وقد نهضتْ: نعم لنسر قليلا وهل لكَ غير المسافات تذرعها فتغطي عجزك عن المواجهة.
 وكتم غيظه ولم يعقّب.
    شرعا في ذرع الشاطئ وقد تمكّن الليل من المكان. أنوار السفن في البعيد البعيد بدت متلألئة كالشّرر ينذر بالويل.. أعشاب البحر التي تكثر في مثل هذا الوقت من السّنة بعثتْ رائحة ذكّرتْ فادي بأيّام الطّفولة حين كان يفتلها ثمّ يتّخذ منها مصيدة لصغار الأسماك.. ترى أكان يجد متسعا من الوقت للتفكير في الحياة لو كان مجبرا على تأمين ما يحتاجه منها وقد قيل له ذات يوم "يجب ألاّ تثق بالحياة لأنّها كالمومس قد تسارع إلى كشف فخذيها ولكنّها لا تثق بالرّجل الذي تعانق."
   انتبه إلى أنّه لا علاقة بين ما يفكّر فيه وما يعيشه الآن أو هكذا قدّر، وهذه أسماء غاضبة وهي لا تفهم حين اتّهمته أنه لا يعرف الحقيقة التي من أجلها يجب أن يحيا أو يموت لأنّ معرفته بما يكره بدت له مؤكدة أمّا معرفته بما يحبّ فهي سبب بحثه، وهل يعرف الإنسان ما يحبّ إذا ما حقّق شيئا توهّم أنّه مراده ثمّ تبيّن له عكس ذلك... كيف يقنع أسماء أنّه يحبّها وفي ذات الوقت يحبّ أن يفهم حياته...؟
           
        التفتَ إليها وكانت تسير إلى جانبه الأيمن حين هبّ نسيم نَاسَتْ له خصلات شعرها المنسدل فبدا وجهها فاتنا في ضوء القمر الخافت.. وقال في نفسه: «هكذا.. حين تصمت المرأة تمنح الرّجل ما يكفي من الوقت لمعانقة جمالها.." وكانت أسماء ساحرة بشعرها الأسود المنسدل المسترسل كوحيّ قصيدة وعدتْ فأوفتْ وبشرة ينسبها الشهد إليه ويدّعيها العسل ووجه طفوليّ زانه أنف رائع وشفتان طريّتان ساحرتا المبسم.. أمّا العينان فسوداوان واسعتان كالحلم يبشّران بخصب الحياة حين ترنو إليهما. إنها فاتنة بهذا القوام المنحوت من سحر ووهم وقال في نفسه: «لماذا يا أسماء؟"                                      
        
  هبّ نسيم بارد من جديد فعقدتْ أسماء ذراعيها على صدرها في قشعريرة وكأّن الليل يزداد برودة لا ظلاما.  

خلع فادي سترته ووضعها على كتفيها بحركة زانها الودّ فنظرتْ إليه قائلة: سيأتي عليكَ حين من الدهر تطلبني فيخزيكَ تخلّيكَ اليوم عنّي فتقبع قائلا "ليت" وَلَاتَ حين ندامة يوم تبحث في الطرق فلا تجد لي عنوانا أو دليلا."
ابتسم معقبا: لا خوف يا أسماء، سوف يدلّني عليكِ كلّ الناس إذا أنا سألتُ يوما عن طريق أروع امرأة في الوجود."
  مالت بوجهها صوب البحر دون أن تردّ وكأنّ ما قاله أرضاها لكنّ صمتها أزعجه، فقد ودّ لو أنها ردّت وشعر فجأة أنّه يدفع عن نفسه لحظة الأسى والقلق والألم دفع قليل الحظّ عاديات الدهر وهذه طلائع الشتاء تقدّم لموسم قاس.
      توقفتْ أسماء فجأة محوّلة بصرها إليه إلا أنّه لم يتبيّن ملامحها جيّدا لكنّ نبرة صوتها كانت صريحة واضحة التّحدّي وهي تقول:" سأرحل معك."
بهت فادي ولم يدر أَ جِدٌّ أُريد به أم أرادت به أسماء عبثا إذ لم يَدُر في خلده قطّ مثل هذا القرار وبهذه الثقة والإلزام وأحسّ أنّ قراره سيقصي أشياء ويرشّح أشياء بل سيحدّد مسار حياته نفسها.. أَ بمثل هذه البساطة تُجيدُ أسماء زعزعة الطمأنينة في نفسه وبهذه البساطة أيضا عليه أن يتَّخذ قرارا في شأن حياته.. الآن في هذا الظلام.. وهنا على هذا الشاطئ القصيّ.. أتراها تناور. وإذ بضحكة لغزٍ تُنَبِّهُهُ فجأة أعقبتها أسماء بتساؤل:
ما رأيك؟ أراك لا تجيب!!!
قال: أنا أحبّك يا أسماء.
 قالت: دع عنك أطواق النجاة هذه فكلمات الحبّ قد تؤجّل القرارات ولكنّها لا تلغيها فاتّخذ قرارك.
 قال: قراري؟ أتراه قراري وحدي يا أسماء؟
        ضحكت أسماء من جديد وإذ أدركتْ حَيْرَتَهُ عادتْ إلى السير من جديد حتّى تزيد من قلقه فوقوفها يعبّر عن لهفة. وسار فادي إلى جانبها.. لا تدري لماذا اتّخذتْ هذا القرار المفاجئ.. بل لا تدري من أين لملمتْ هذه الشجاعة لتعلن ما أعلنتْ.. أ يُفكّر الإنسان دهرا ثمّ يقرّر مسار حياته في لحظة شردتْ عن زمن تفكيره!؟ أ بهذه البساطـة فعـلا قد تقع أخطر الالتزامات؟ وماذا تراه يظنّ بها؟ وأحسّت أنها وقعت في نفس الشرك الذي نصبتْه دون سابق تدبير منها فودّتْ لو أنّه يتكلّم.. يقول شيئا.. يعلن رفضه إذا شاء وصار الصمت هَوْلا لكل منهما.
        دَلِهَ فؤادها فجأة.. وبدا لها كلّ شيء عاريا في هذه اللحظة.. البحر وضوء القمر والشاطئ وهما.. كلّ شيء عار عري فضيحة رغم هذا الظلام، والعريُ عريُ النفس لا عري الجسد.. لذا يجب أن يحدث شيء يعدم هذا الصمت الجاثم على النّفس كالذّل .. يجب أن يقول أحدهما شيئا ليمتلئ المكان بهما من جديد.. ليغطي الكلام ما تعرّى منهما.. تَعْلَمُ أنّ فادي لا يقلّ عنها قلقا وارتباكا في هذه اللحظات.. لن يسعفها.. لذا يجب أن يحدث شئ..  وتمنّت ذلك.. أن يحدث أيّ شيء.. يمرّ شهاب.. ينزل المطر.. ينشقّ البحر.. يجب أن يحدث شيء.  ونظرتْ إلى البحر.. تمنت أن تلقي بنفسها في خضمّ هذا الجبّار الأسود أمامها.. أن تبقى على شاطئه وحدها تتوسّد رماله فتمشّط نسائمه شعرها ويحكي لها موجه قصّة الملح وألواح المراكب.                                                    
فاجأها فادي: أ من أجلي يا أسماء ترحلين أم مغامرة البحث في المسافات تراها دعتك؟
قالت: وما الفرق يا فادي!! ؟
قال: أن ترحلي من أجلي فذاك شيء ورحيلك من أجل البحث شيء آخر يا أسماء.
قالت: وما مبلغ خوفكَ على مسافاتكَ يا عزيزي؟
قال: أراكِ تقطعين الطُّرُق يا أسماء.
قالت: يعيش القراصنة على السّفن الغافلة.
قال: إذًا هي رحلة أخرى.. فَلْتَـكُنْ نفس السّفينة.
       تحسّس يدها في الظلام فتشابكت الأصابع فقالت:
لنركض وقد قدّرت أنّها ربّان الرّحلة.
وقال:
فلنركض. وقد قدّر أنّه سيعلّمها الملاحة
   احتكرهما الظّلام ... وطلائع هذا الشتاء تقدّم لحبّ قاس.                

2 التعليقات:

الحلاج الكافي a dit…

نصّ محبوك رائع حسن البناء . اعدت قراءته مرّتين حتى استوعب ....

مع تحيّاتي و تشجيعي .

Unknown a dit…

شكرا على التواصل وعناء القراءة صديقي الرائع

Enregistrer un commentaire

Newer Posts Older Posts